مشروعيته ومواضعه وأسبابه
في ضوء الكتاب والسنة
بسم الله الرحمن الرحيم
سجود السهو لما يُبْطِلُ عمدُهُ الصلاة واجب؛ لأمر النبي صلّى الله عليه وسلّم به سواء كان فعلاً أو تركًا من جنس الصلاة( ).
وقد كان سهو النبي صلّى الله عليه وسلّم من تمام نعمة الله – عز وجل – على
أمته، وإكمال دينهم؛ ليقتدوا به صلّى الله عليه وسلّم فيما يشرعه لهم عند
السهو؛ فإنه صلّى الله عليه وسلّم كان ينسى فيترتب على سهوه أحكام شرعية
تجري على سهو أمته إلى يوم القيامة( )، فقد ثبت عنه صلّى الله عليه وسلّم
أنه شَرعَ لأمته في سجود السهو أحكامًا منها:
أولاً: حُفِظَ عن النبي صلّى الله عليه وسلّم في السهو أشياء منها:
1 ـ سلم النبي صلّى الله عليه وسلّم من اثنتين، ثم أتمّ ما بقي وسجد بعد
السلام؛ لحديث أبي هريرة – رضي الله عنه – في قصة ذي اليدين، قال: صلى
النبي صلّى الله عليه وسلّم إحدى صلاتي العشي( ) ركعتين ثم سلم، ثم قام
إلى خشبة في مقدم المسجد فوضع يده عليها، وفي القوم أبو بكر وعمر، فهابا
أن يكلماه، وخرج سَرَعانُ الناس فقالوا: أقصرت الصلاة؟ ورجل يدعوه النبي
صلّى الله عليه وسلّم ذا اليدين، فقال: يا رسول الله أقصرت الصلاة أم
نسيت؟ فقال: “لم أنس ولم تقصر” قال: بلى، فصلى ركعتين ثم سلم، ثم كبر فسجد
مثل سجوده أو أطول، ثم رفع رأسه فكبر، ثم وضع رأسه فكبر فسجد مثل سجوده أو
أطول ثم رفع رأسه فكبر ثم سلم( ).
2 ـ سلم صلّى الله عليه وسلّم من ثلاث، فأتم الركعة الباقية ثم سجد سجود
السهو بعد السلام؛ لحديث عمران بن حصين – رضي الله عنه – أن رسول الله
صلّى الله عليه وسلّم صلى العصر فسلم في ثلاث ركعات، ثم دخل منـزله، فقام
إليه رجل يقال له: الخِربَاقُ، وكان في يديه طولٌ فقال يا رسول الله، فذكر
له صنيعه، وخرج غضبان يجرُّ رداءه حتى انتهى إلى الناس فقال: “أصدق هذا”؟
قالوا: نعم، فصلى ركعة ثم سجد سجدتين ثم سلم. وفي رواية: “فصلى الركعة
التي كان ترك ثم سلم، ثم سجد سجدتي السهو ثم سلم”( ).
3 ـ قام صلّى الله عليه وسلّم في الركعتين الأوليين من صلاة الظهر ولم
يجلس للتشهد، حتى قضى صلاته، ثم سجد سجود السهو قبل السلام؛ لحديث عبد
الله بن بحينة – رضي الله عنه – "أن النبي صلّى الله عليه وسلّم صلى بهم
الظهر فقام في الركعتين الأوليين لم يجلس فقام الناس معه حتى إذا قضى
صلاته، وانتظر الناس تسليمه كبر وهو جالس فسجد سجدتين قبل أن يسلم، ثم
سلم"( ).
4 ـ صلى الظهر خمسًا فَنُبِّهَ فثنى رجليه واستقبل القبلة فسجد سجدتين ثم
سلم؛ لحديث عبد الله بن مسعود – رضي الله عنه – أن رسول الله صلّى الله
عليه وسلّم صلى الظهر خمسًا، فقيل له: أزيد في الصلاة؟ فقال: “وما ذاك”؟
قالوا: صليت خمسًا، فسجد سجدتين بعدما سلم( ).
5 ـ أما الشك فلم يعرض له صلّى الله عليه وسلّم، وقد أمر فيه بأمرين على حسب نوعيه:
أ ـ أمر صلّى الله عليه وسلّم من رجع إلى التحري وهو أكثر الوهم أو الظن
الغالب القوي بالبناء على غالب الظن، ثم السجود للسهو بعد السلام؛ لحديث
عبد الله بن مسعود – رضي الله عنه – قال: صلى النبي صلّى الله عليه وسلّم،
فلما سلم قيل له: يا رسول الله أحدث في الصلاة شيء؟ قال: “وما ذاك” قالوا:
صليت كذا وكذا، فثنى رجله واستقبل القبلة وسجد سجدتين ثم سلم، فلما أقبل
علينا بوجهه قال: “إنه لو حدث في الصلاة شيء لنبأتكم به، ولكن إنما أنا
بشر مثلكم أنسى كما تنسون، فإذا نسيت فذكروني، وإذا شك أحدكم في صلاته
فليتحرَّ الصواب فليتم عليه، ثم يسلم، ثم يسجد سجدتين”. وفي رواية لمسلم:
“فليتحر أقرب ذلك إلى الصواب”( ).
ب ـ أمر صلّى الله عليه وسلّم من شك ورجع إلى اليقين – وهو الأقل –
بالبناء على اليقين، وطرح الشك ثم السجود للسهو قبل السلام( )؛ لحديث أبي
سعيد – رضي الله عنه – يرفعه: “إذا شك أحدكم في صلاته فلم يدر كم صلى
ثلاثًا أم أربعًا؟ فليطرح الشرك، وليبنِ على ما استيقن ثم يسجد سجدتين قبل
أن يسلم، فإن كان صلى خمسًا شفعن له صلاته، وإن كان صلى إتمامًا لأربع
كانتا ترغيمًا للشيطان”( ).
قال الإمام أحمد – رحمه الله -: “يحفظ عن النبي صلّى الله عليه وسلّم خمسة
أشياء: سلم من اثنتين فسجد، وسلم من ثلاث فسجد، وفي الزيادة والنقصان،
وقام من اثنتين ولم يتشهد”( ). وقال الخطابي – رحمه الله -: "والمعتمد عند
أهل العلم هذه الأحاديث الخمسة"( )، قال الإمام ابن قدامة – رحمه الله -:
"يعني حديثي ابن مسعود، وأبي سعيد، وأبي هريرة، وابن بحينة"( ).
ثانيًا: سجود السهو قبل السلام في مواضع وبعده في مواضع:
ثبت أن النبي صلّى الله عليه وسلّم سجد للسهو قبل السلام في مواضع، وبعده
في مواضع( ). فما سجد فيه النبي صلّى الله عليه وسلّم قبل السلام أو أمر
به، يسجد فيه قبله، كسجود السهو لمن ترك التشهد الأول، وسجود السهو لمن شك
وبنى على اليقين، وما سجد فيه النبي صلّى الله عليه وسلّم بعد السلام أو
أمر به، يسجد فيه بعده: كسجود السهو لمن سلم قبل تمام الصلاة، أو ذُكِّر
بالزيادة في صلاته بعد السلام، أو شك وبنى على غالب ظنه، كما دلّت عليه
الأحاديث في أوّل المبحث( )، والأمر في ذلك واسع، فيجوز السجود قبل السلام
وبعده( ) لكن الأفضل أن يكون السجود قبل السلام إلا في حالتين:
الحالة الأولى: إذا سلم عن نقص أو ذُكِّر بالزيادة بعد السلام، اقتداء
بالنبي صلّى الله عليه وسلّم في ذلك؛ لحديث أبي هريرة( ) وعمران بن حصين(
) وعبد الله بن مسعود( ) – رضي الله عنهم -.
الحالة الثانية: إذا شك ولكنه بنى على غالب ظنه؛ لحديث عبد الله بن مسعود
– رضي الله عنه –( ) واختار هذا الإمام ابن باز – رحمه الله –( ).
والمسألة خلافية عند أهل العلم لكن هذا هو الأفضل( ).
ثالثًا: التفصيل في أسباب السجود وأحكامها:
ظهر من الأحاديث الواردة في سجود السهو أن أسباب السجود ثلاثة: الزيادة،
والنقص، والشك بنوعيه( )، وأحكام هذه الأسباب على النحو الآتي:
السبب الأول: الزيادة، وهي نوعان:
النوع الأول: زيادة الأفعال، وهي على ثلاثة أحوال:
الحال الأولى: زيادة من جنس الصلاة، كزيادة قيام أو قعود، أو ركوع، أو
ركعة، فهذه زيادة فعلية إن تعمدها المصلي بطلت صلاته، وإن كان سهوًا سجد
له وصحت صلاته؛ وإن زاد ركعة سهوًا ولم يعلم حتى فرغ منها سجد للسهو، أما
إن علم في أثناء الركعة الزائدة فإنه يجلس في الحال بغير تكبير، ثم يتشهد
إن لم يكن تشهد ثم يسجد للسهو ويسلم.
ويجب على من علم بزيادة الإمام أو نقصه تنبيهه؛ لحديث عبد الله بن مسعود –
رضي الله عنه - يرفعه وفيه: “إنما أنا بشر مثلكم أنسى كما تنسون فإذا نسيت
فذكروني”( ). وتنبيه الرجال بالتسبيح، والنساء بالتصفيق؛ لحديث سهل بن سعد
الساعدي – رضي الله عنه – يرفعه وفيه: “إذا نابكم أمر فليسبح الرجال،
وليصفق النساء”. وفي لفظ: “من نابه( ) شيء في صلاته فليسبح، فإنه إذا سبح
التفت إليه، وإنما التصفيق للنساء”( ). ويلزم الإمام الرجوع إلى تنبيههم
إذا لم يجزم بصواب نفسه؛ لأنه رجوع إلى الصواب.
الحال الثاني: زيادة من غير جنس الصلاة، كالمشي، والحك، والتّروُّح، والحركة، فهذه الحركات لا سجود لها، وهي ثلاثة أقسام:
1ـ القسم الأول: حركة مبطلة للصلاة، وهي الكثيرة عرفًا، المتوالية لغير ضرورة.
القسم الثاني: حركة مكروهة، وهي اليسيرة لغير حاجة.
القسم الثالث: حركة جائزة، وهي اليسيرة لحاجة؛ لحديث أبي قتادة – رضي الله
عنه – “أن النبي صلّى الله عليه وسلّم صلى وهو حامل أمامة بنت زينب بنت
رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لأبي العاص إذا قام حملها، وإذا سجد
وضعها”( )، وثبت عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه فتح الباب لعائشة –
رضي الله عنها – وهو في الصلاة( ).
ولا فرق بين العمد والسهو في الحركات لأنها من غير جنس الصلاة، ولا يشرع لها سجود سهو.
الحال الثالث: الأكل والشرب، إن كان عمدًا أبطل الصلاة، وإن كان سهوًا لم يبطلها؛ لعموم حديث: “عفي لأمتي عن الخطأ والنسيان”( ).
النوع الثاني: زيادة الأقوال: وهي على ثلاث حالات:
الحال الأولى: زيادة من جنس الصلاة، كأن يأتي بقول مشروع في الصلاة في غير
محله: كالقراءة في الركوع والسجود، والجلوس، وكالتشهد في القيام، فإن كان
عمدًا فهو مكروه، ولا يجب السجود له، وإن كان سهوًا استحب السجود له؛
لعموم حديث عبد الله بن مسعود – رضي الله عنه – يرفعه وفيه: “إذا زاد
الرجل أو نقص فليسجد سجدتين”( ) إلا إذا جاء بهذا الذكر مكان الذكر
الواجب، ولم يقل الواجب: كالتسبيح في الركوع والسجود، فإنه يجب عليه أن
يسجد لتركه الواجب إلا إذا جمع بينهما فلا يجب( ) بل يستحب لعموم الأدلة.
الحال الثاني: أن يسلم قبل إتمام الصلاة، فإن كان عمدًا بطلت؛ لأنه تكلم
فيها، وإن كان سهوًا، وطال الفصل أو نقض الوضوء بطلت صلاته وأعادها، أما
إن ذكر قبل أن يطول الفصل أتم صلاته ثم سجد للسهو؛ لحديث أبي هريرة – رضي
الله عنه –( ).
الحال الثالث: الكلام من غير جنس الصلاة، فإن كان عمدًا غير جاهل أبطل
الصلاة إجماعًا؛ لحديث زيد بن أرقم – رضي الله عنه –( ) وإن كان سهوًا أو
جهلاً فالصحيح أنه لا يبطلها، ولا سجود عليه؛ لأنه من غير جنس الصلاة.
السبب الثاني: النقص، وهو ثلاثة أنواع:
النوع الأول: ترك ركنٍ: كركوع أو سجود، فإن كان عمدًا بطلت الصلاة، وإن
كان سهوًا وكان تكبيرة الإحرام لم تنعقد صلاته ولا يغني عنه سجود السهو
شيئًا، أما إن كان ركنًا غير تكبيرة الإحرام فله ثلاثة أحوال:
الحال الأولى: إن ذكره قبل أن يشرع في قراءة ركعة أخرى وجب عليه أن يرجع
فيأتي بالركن الذي تركه وبما بعده( ). وقيل: إن ذكره قبل أن يصل إلى محله
وجب عليه الرجوع فيأتي بالركن الذي تركه وبما بعده( ).
الحال الثاني: إن ذكره بعد شروعه في قراءة ركعة أخرى لغت الركعة التي ترك
الركن فيها وقامت الركعة التي تليها مقامها( ) وقيل: إن ذكره بعد أن وصل
إلى محله من الركعة التي تليه فلا يرجع، وتقوم هذه الركعة مقام الركعة
التي ترك فيها الركن( ).
الحال الثالث: إن ذكره بعد السلام فكتركه ركعة كاملة، فيأتي بركعة، ويسجد
للسهو إلا أن يكون المتروك تشهدًا أخيرًا أو جلوسًا له أو سلامًا فيأتي به
وعليه سجود السهو في هذه الصور كلها، إلا إن طال الفصل أو أحدث فيعيد
الصلاة كاملة( ).
النوع الثاني: تركُ واجب من واجبات الصلاة، كالتكبير لغير الإحرام، أو
تسبيح الركوع والسجود، وغير ذلك من الواجبات، فإن كان عمدًا بطلت الصلاة،
وإن تركه سهوًا فعلى أحوال:
الحال الأولى: إن ذكره قبل الوصول إلى الركن الذي يليه وجب عليه الرجوع ويأتي به.
الحال الثاني: إن ذكره بعد أن وصل إلى الركن الذي يليه فلا يرجع وعليه
سجود السهو. كالتشهد الأول فإنه إذا تركه لا يخلو من أربعة أمور:
الأمر الأول: أن يذكره قبل أن تفارق فخذاه ساقيه، وبعضهم قال: قبل أن
تفارق ركبتاه الأرض، والمعنى متقارب، ففي هذه الحال يستقر وليس عليه سجود؛
لأنه لم يزد شيئًا في صلاته.
الأمر الثاني: إذا نهض ولكن في أثناء النهوض ذكر قبل أن يستتم قائمًا فإنه يرجع، ويأتي بالتشهد وعليه سجود السهو.
الأمر الثالث: إذا نهض واستتم قائمًا فقد وصل إلى الركن الذي يليه، فيكره له الرجوع فإن رجع لم تبطل صلاته وعليه سجود السهو.
الأمر الرابع: إذا ذكر بعد الشروع في القراءة فلا يرجع فإن رجع عمدًا
عالمًا حرم عليه ذلك وبطلت صلاته؛ لأنه تعمد المفسد وهو زيادته فعلاً من
جنسها.
النوع الثالث: ترك مسنون، فإذا ترك مسنونًا لم تبطل الصلاة بتركه عمدًا ولا سهوًا، ولا سجود عليه.
السبب الثالث: الشك، فإذا كان بعد السلام فلا يلتفت إليه، إلا إذا تيقن
النقص أو الزيادة، وإذا كان الشك وهمًا بحيث طرأ على الذهن ولم يستقر فلا
يلتفت إليه، وإذا كثرت الشكوك لا يلتفت إليها، وإن لم يكن الشك كذلك،
فالشك إما أن يكون في زيادة ركن أو واجب في غير المحل الذي هو فيه فلا
يلتفت له، وأما الشك في الزيادة وقت فعلها فيسجد له، وأما الشك في نقص
الأركان فكتركها فيأتي بالركن على التفصيل الذي سبق في إكمال الأركان، إلا
إذا غلب على ظنه أنه فعله فلا يرجع، ولكن عليه سجود السهو، والشك في ترك
الواجب بعد أن فارق محله لا يوجب سجود السهو( )، وإذا حصل له شك بنى على
اليقين وهو الأقل، إلا إذا كان عنده غلبة ظن فإنه يتحرى ويبني على غالب
ظنه، فيأخذ به( ).
ولا سجود على مأموم دخل مع الإمام من أول الصلاة، إلا تبعًا لإمامه؛ فإن
قام المأموم المسبوق لقضاء ما فاته بعد سلام إمامه، فسجد إمامه للسهو، بعد
السلام فحكمه حكم القائم عن التشهد الأول: إن سجد إمامه قبل انتصابه
قائمًا لزمه الرجوع، وإن انتصب قائمًا ولم يشرع في القراءة لم يرجع وإن
رجع جاز، وإن شرع في القراءة لم يكن له الرجوع، ويسجد للسهو بعد قضاء ما
عليه( ) بعد السلام( ).