Bound2 *ابــــــــالبناديقــــــــــــــو*
عدد الرسائل : 1286 العمر : 32 تاريخ التسجيل : 25/03/2007
| موضوع: رد: مبادئ الملاحده الفكريه والرد عليها OoO متجدد OoO الإثنين يونيو 04, 2007 8:45 pm | |
| رابعاً: فكرة التطور المطلق :
كانت الحياة الأوروبية طيلة القرون الوسطى مستغرقة في سكون مطبق وجمود عام، أوحى إلى العقلية الأوروبية الخاملة -آنذاك- بفكرة الثبات المطلق في كل شيء، وأسهمت الكنيسة -بطقوسها الجامدة ووقوفها ضد كل جديد- في ترسيخ هذه الفكرة وتعميقها [233] .
وأول هزة تعرضت لها هذه الفكرة كانت على يد (كوبرنيك ) - من غير قصد - فدوران الأرض التي نادت به نظريته يناقض المسلَّمة البدهية في نظر عصره، وهى أنها ثابتة وما عليها ثابت كذلك، ثم إن التقدم في الكشف والبحث الذي ابتدأ منذ عصر النهضة، والذي اقتبس حيويته ونشاطه من الشرق المتحضر كان عاملاً مؤثراً في إضعاف الإيمان بهذه الفكرة.
وظهرت فكرة التطور لدى بعض الباحثين مثل: (أوجست كومت ) صاحب نظرية التطور العقلي (من الخرافة إلى الدين إلى الوضعية)، وظهرت كذلك لدى (هوبز ) الذي يرى أن المجتمع الإنساني تطور من الوحشية الغابيَّة إلى الحالة الاجتماعية، وكذلك (روسو ) الذي قال بتطور المجتمع من الحالة الطبيعية إلى الحالة الفوضوية، مما استوجب وجود (عقد اجتماعي) بين الأفراد.
لكن هذه النظريات لم تكن من القوة والتعميم بحيث تزلزل فكرة الثبات كلية، وإن كان لها فضل في التمهيد لذلك.
وتمت هذه الزلزلة على يد (داروين ) ونظريته في التطور العضوي، وبعد داروين انتقلت أوروبا من الإيمان بالثبات المطلق إلى الاعتقاد في التطور المطلق.
لقد حدث في القرن التاسع عشر تحول شامل في الحياة الأوروبية كلها، بسبب ما أحدثه الانقلاب الصناعي من نقل الناس من البيئة الزراعية إلى البيئة الصناعية مما كان له أثره البالغ في أخلاق الناس وتقاليدهم وأوضاعهم عامة، فكان ذلك تطوراً اجتماعيا واقتصادياً موازياً للتطور العلمي والثقافي.
في ظل هذه الظروف المتغيرة والمتطورة ولدت نظرية التطور في كتاب داروين (أصل الأنواع ) الذي قال عنه وست :
(لقد كان تأثير هذا الكتاب عظيماً ولا شك، فعن طريق وضع مبدأ جديد للدراسة وهو مبدأ ديناميكي، وليس مبدأ استقرارياً أو استاتيكياً، استطاع أن يحدث ثورة في كل فروع المعرفة من علم الفلك إلى التاريخ، ومن علم الحفريات القديمة إلى علم النفس ومن علم الأجنة إلى علم الدين) [234] .
والواقع أن التطور الديني الذي أوحت به النظرية ليتجاوز الأثر العلمي إلى ميادين الحياة كافة (الاجتماعية والسياسية والاقتصادية)... إلخ، ونزلت الضربة القاضية على رأس الدين والأخلاق. والحق أن داروين لم يقل صراحة: إنه لا شيء ثابت على الإطلاق وأن الحياة البشرية تمضي في حلقات متباينة تختلف كل لاحقة عن سابقتها اختلافاً كاملاً، ولكن نظريته توحي بذلك وتومئ إليه، وذلك أن التطور كما شرحه داروين يشتمل على عنصرين بارزين: (الحتمية والاضطراب) فكل مرحلة من مراحل التطور أعقبت سلفها بطريقة حتمية، بمعنى أن العوامل الخارجية - كما أسلفنا - هي التي تحدد نوعية هذه المرحلة، أما خط سير التطور ذاته بمراحله جميعها فهو مضطرب لا يسعى إلى غاية مرسومة أو هدف بعيد؛ لأن (الطبيعة) التي أوجدته غير عاقلة ولا واعية، بل تخبط خبط عشواء!!
عن طريق هذين العنصرين أوحت النظرية بتطور حتمي مطلق لا غاية له ولا حدود، الحتمية تجعل الإيمان بثبات أي شيء وإن كان الدين والقيم أو التقاليد جموداً ورجعية، وكل محاولة للثبات على شيء من ذلك هي معركة خاسرة مع القدر الذي لا يقهر، واضطراب خط التطور يلغي كل المعايير الثابتة المتعارف عليها للحكم على الأشياء، ويستبدل بها معياراً واحداً لا ميزة له في ذاته إلا عدم قبوله صفة التطور وهو (الزمان) فكل عقيدة أو نظام أو خلق هو أفضل وأكمل من غيره ما دام تالياً له في الوجود الزمني.
يقول لوبون : 'إن الزمان (إله) لأنه (هو الذي يولد المعتقدات فينميها ثم يميتها ومنه تستمد قوتها وبفعله يتولاها الضعف والانحلال' 'إن الزمان هو صاحب السيادة الحقيقية فينا، وما علينا إلا أن نتركه يعمل لنرى كل شيء يتحول ويتبدل' [235] .
وهكذا آمنت أوروبا بالتطور المطلق، وحسبت كل تغير -وإن كان انتكاسة وانحطاطاً- تطوراً وتقدماً.
فـالشيوعية أكبر المذاهب الأرضية وأوسعها انتشاراً تستمد تفسيرها المادي للتاريخ من هذه الفكرة (فكرة التطور الحتمي) فالمجتمع البشرى مر -كما تخيل فلاسفتها- بخمس مراحل حتمية، لكل مرحلة منها عقائدها وأخلاقها وتقاليدها النابعة من الظروف الاقتصادية والأوضاع المادية.
فمثلاً في المجتمع الزراعي كان الإنسان متديناً؛ لأن الزراعة عملية غيبية لا يستطيع أن يتحكم فيها بجهده الذاتي، فلجأ إلى الاعتقاد في (قوى غيبية) لتسيير العملية وإنجاحها.
وكان المجتمع الزراعي مجتمعاً أسرياً ذا تقاليد؛ لأن الرجل هو المنتج الرئيسي فيه وهو الذي يعول المرأة، ولذلك كان يرى أن له الحق في امتلاكها وحده، ففرض عليها قيوداً أخلاقية نشأ عنها أخلاق وتقاليد زراعية.
ثم تطور المجتمع الإنساني -حتمياً- وانتقل إلى الطور الصناعي فتبدلت الأحوال... عملية الإنتاج لم تعد (غيبية) فهي عملية منظورة يقوم بها الإنسان وليس (الله)!! ولذلك فلا داعي للإيمان بالغيبيات، بل إن التطور ليفرض على المجتمع أن يكون بلا دين.
والمرأة قد استقلت اقتصادياً ومن ثم تحررت من سيطرة الرجل وقيوده، فأصبح من حقها -أو من واجبها- أن تنبذ تقاليد وأخلاق العصر الزراعي، وتساير موكب التطور الذي يغري، بل يدفع إلى الإباحية الجنسية.
وباختصار ترى الشيوعية أن لكل عصر دينه وأخلاقه وتقاليده، ولا ضير في ذلك، لكن العيب الشائن هو أن يعيش المرء في عصر الصناعة والتطور متحجراً على دين وتقاليد العصر الزراعي الجامد، ولم يقتصر الأمر على الشيوعية ، بل إن علوم النفس والاجتماع، أو على الصحيح زعماء هذين من اليهود وأتباعهم ليؤمنون بالتطور في كل شيء، حتى الدين نفسه، بل لعل الدين هو الهدف المقصود من العملية كلها!!
فعلم الاجتماع -بل يهودية دور كايم - ينفي أن يكون الدين والزواج والأسرة فطرية في الإنسان، وإنما هي من عمل (العقل الجمعي) ذي السطوة القاهرة على الأفراد، وهذا العقل دائم التغير والتطور والتشكل (وهنا نلحظ عنصر الاضطراب) فإذا قال العقل الجمعي في طور من أطواره: ليكن دين أو زواج أو أسرة فليكن ذلك، أما إذا قال حسب هواه: ليكن لا دين ولا زواج ولا أسرة، فسرعان ما يخضع الأفراد لقهره فينسلخون من دينهم وأخلاقهم وتقاليدهم، [236] ويتفق علم النفس مع علم الاجتماع في عدم فطرية الدين ولكنهما يختلفان في تفسير تطوره.
فعلم الاجتماع يرى أن أصل الدين شيء خارجي هو -الأرواح أو القوى الطبيعية أو المحرم (التابو)- وابتدأ الإنسان تدينه بالسحر والشعوذة، ثم تطور إلى عبادة آلهة متعددة، ثم تطور إلى التوحيد الذي يمثل آخر حلقة في عصر الدين أعقبها مباشرة -بفعل التطور- عصر العلم الذي ينفي الدين بجملته.
أما علم النفس أو يهودية (فرويد ) فيرى حسب تفسيره الدنِس للدين أن أصل الدين هو الشعور بالندم الذي استولى على أبناء الأسرة البشرية البدائية الأولى حين قتلوا أباهم، ولماذا قتلوه؟ لأنه كان يحول بينهم وبين اللقاء الجنسي مع الأم، فابتداء الدين في صورته الأولى عبادة للأب، ثم تطور إلى عبادة (الطوطم)، ثم تطور إلى عبادة القوى الخفية في صورة الدين السماوي وهو في الأطوار كلها ينبع من العقدة نفسها عقدة (أوديب) كما يصرح بذلك في كتابه الذات والغرائز . [237]
والأخلاق تطورت في المراحل نفسها باعتبارها جزءاً من الدين أو مستمدة منه، بل إن (برتراندرسل ) ليرى أنها تطورت خلال ثلاث مراحل(أخلاق المحرم (التابو) ثم أخلاق الطاعة الإلهية، ثم أخلاق المجتمع العلمي) [238] .
ويقول (وليم جيمس ) عن الأثر الدارويني في الأخلاق:
(إن فلسفة النشوء والارتقاء قد ألغت المعايير الأخلاقية التي سبقتها كلها لأنها رأتها معايير ذاتية شخصية وقدمت لنا بدلها معياراً آخر، نتعرف به الخير من الشر، وبما أن المعايير السابقة معايير نسبية فهي مدعاة للقلق والاضطراب، وأما هذا المعيار الذي ارتضوه وهو أن الحسن ما قدر له أن يبقى ويظهر ويبقى فهو معيار موضوعي محدد) [239] .
وإجمالاً فقد آمنت أوروبا شرقها وغربها بأن لا شيء ثابت على الإطلاق وهو الإيمان الذي عبر عنه (رسل ) بقوله:
(ليس ثمة كمال ثابت ولا حكمة لا تَقدم بعدها... وأي اعتقاد نعتقده وإن كان مما نظنه بالغ الأهمية ليس بباق مدى الدهر، ولو تخيلنا أنه يحتوى على الحق الأبدي، فإن المستقبل كفيل بأن يضحك منا [240] .
ومن الحق أن نقول: إن هناك علماء عارضوا فكرة التطور المطلق لكنهم قوبلوا بالنقد العاصف والاستنكار الشديد بحجة أنهم رجعيون متخلفون يعرقلون مسيرة التطور الحضاري، يقول كارل بوير : 'إنني أشعر بشيء من الإرهاب مما يميل إليه أصحاب مذهب التطور من إلصاق تهمة الوقوف في وجه الإصلاح والتنوير بكل من لا يشاركهم موقفهم العاطفي إزاء التطور باعتباره تحدياً جريئاً ثورياً للفكر التقليدي'[241] .
وقال لوبون : 'الملوكي بمقتضى كونه ملوكياً يعتقد أن الإنسان ليس متولداً من القرد، والجمهوري يعتقد الضد تماماً'.
وهكذا رسخت فكرة التطور المطلق في كل فرع من فروع المعرفة النظرية، وفي كل حقل من حقول التطبيق الواقعي وأصبحت السمة الظاهرة للحضارة المعاصرة | |
|
Bound2 *ابــــــــالبناديقــــــــــــــو*
عدد الرسائل : 1286 العمر : 32 تاريخ التسجيل : 25/03/2007
| موضوع: رد: مبادئ الملاحده الفكريه والرد عليها OoO متجدد OoO الإثنين يونيو 04, 2007 8:45 pm | |
| العلمانية في الحياة الأوروبية
الفصل الأول: علمانية الحكم سبق أن ذكرنا في الباب الأول أن الشريعة المسيحية لم تطبق في عالم الواقع، وذكرنا هنالك بعض العوائق التاريخية التي عرقلت قيام مجتمع إسلامي تحكمه هذه الشريعة.
على أن إقصاء الشريعة المسيحية عن واقع الحياة لا يعني أنها كانت عديمة التأثير في النواحي السياسية والاقتصادية والاجتماعية، فضلاً عن السلوك الشخصي للحكام المسيحيين، وذلك بفضل المنهج الأخلاقي المثالي الذي كان الدعاة المسيحيون المخلصون يبثونه بحرارة وإصرار، والنفوذ القوي الذي كان رجال الدين يتمتعون به في الأمم.
وكان للكنيسة آراؤها السياسية التي يمكن أن يستخلص من مجموعها نظرية سياسية تعبر عن وجهة نظرها الذاتية وإن كانت -طبعاً- لا تعبر عن أحكام الدين كما أنزل من عند الله.
والنظرية الكنسية في أكمل صورها أشبه شيء بالنظريات الخيالية التي تتحدث عن مدن فاضلة وهمية، هذا إذا نظرنا إلى أوغسطين على أنه قديس مسيحي وليس فيلسوفاً رومانياً، فهو الذي عبر عن هذه النظرية في كتابه مدينة الله وفكرة أوغسطين الأساسية صحيحة تماماً من جهة أنه ليس في الوجود إلا مملكتان أو مدينتان لا ثالث لهما إحداهما مدينة الله، والأخرى مدينة الشيطان.
ولكن الخطأ الذي يفسد هذه الفكرة ذاتها عنده يكمن في تحديده لخصائص كل مدينة، فهو يرى أن مدينة الله هي التي يحكمها آباء الكنيسة بخلاف مدينةالشيطان التي يسوسها رجال الدنيا، ثم إن الصورة التي تخيلها لمدينة الله موغلة في الخيال إلى درجة تجعل إمكان تطبيق نظريته عملياً خارقة نادرة إن لم تكن مستحيلة. [242]
أما النظرية الأكثر واقعية والتي سادت عملياً طيلة فترة نفوذ الكنيسة، فالحكام في نظرها لا يشترط أن يكونوا رجال دين؛ ولكن يجب أن يخضعوا في ذواتهم لسلطة رجال الدين.
فعلى الرغم من قصور النظرية الكنسية وعجزها عن تنظيم شئون الحياة بسب تحريفها وإهمالها لشريعة الله ونظرتها الخاطئة إلى الحياة الدنيا، وإيمانها بقاعدة: "اعط ما لقيصر لقيصر وما لله لله" بالمدلول الخاص لهذه العبارة - على الرغم من ذلك فقد كان الملوك والأباطرة في القرون الوسطى يخضعون -في صورة ما- لرجال الدين، ولا يعدون أنفسهم مسيحيين فحسب، بل جنوداً للمسيحية -كما حدث في الحروب الصليبية- والخطأ الفادح جاء من قبل الكنيسة، إذ وجهت واستغلت عواطفهم الدينية لخدمة مصالحها الذاتية وجهدت في إخضاعهم لا لشريعة الله بل لأهواء البابوات [243] .
صحيح أن إيمانهم بالدين كان محصوراً في الحدود الضيقة التي رسمتها الكنيسة، ومشوباً بالتصورات الوثنية ، لكنهم كانوا يرون أنفسهم ملزمين بالأخلاق الدينية في تعاملهم السياسي - ولو ظاهراً - لأن ذلك هو مقتضى كونهم مسيحيين.
وكانت ضرورات العمل السياسي - كما يدَّعون - تلجئهم إلى مخالفة الروح المسيحية فينكثون بالعهود، ويزهقون أرواح الأبرياء ويستبيحون الكذب والمواربة في سبيل تحقيق مصالحهم السياسية، غير أنهم لم يتخذوا ذلك مسلكا عاماً ولم يختلقوا له تبريراً عقلياً منافياً لتعاليم الدين.
ربما كان منهم من يتلهف للحصول على مبرر ما ليقيه على الأقل وطأة التناقضات النفسية وعقاب الضمير، لكن العثور على ذلك ظل مستحيلاً أمداً غير يسير.
وصحيح أن الكنيسة أهملت تنظيم شئون الدولة، وأن القانون الروماني كان يطبق على مسمع منها ومرأى، لكنها كانت متشددة فيما يتعلق بالسلوك الشخصي للحكام، يشاركها في ذلك عواطف الشعب وضمير الأمة، وكان الأباطرة مضطرون للتمسك بالأخلاق المسيحية كي يكسبوا ود الكنيسة، حيث أن إبقاء سلطانهم وشرعيته مرهونان برضاها عنهم، فهي التي تتولى تتويجهم وتقدس حكمهم وتباركه، ثم إن من حقها - كما قال البابا جريجوري السابع - أن تخلع المسيئين منهم وتحل رعيتهم من طاعتهم.
لهذه الاعتبارات يصح القول بأن عملية الفصل بين السياسة وبين الدين والأخلاق بمفهومها المعاصر لم تكن معروفة لدى سياسيي القرون الوسطى، وإن كانت أوروبا -حقيقة وواقعاً- لم تحكم بما أنزل الله قط في أية مرحلة من تاريخها.
وإذا تجاوزنا النظرية الكنسية إلى الفكر السياسي اللاديني، فسنجد نظريات عديدة قبل أن نصل إلى النظريات المعاصرة.
وأشهر تلك النظريات ثلاث:
1-النظرية الخيالية.
2-نظرية العقد المجتمع.
3- نظرية الحق الإلهي.
أولاً: النظرية الخيالية
عرفت هذه النظرية قديماً في الفكر الإغريقي حيث كان الفلاسفة يهربون من الواقع السيئ إلى عالم الخيال الواسع، ويبنون من الأوهام والأحلام الجانحة مجتمعات مثالية أو مدناً فاضلة تتمتع بالوئام التام والإيثار المتناهي والمساواة الكاملة في جو ملائكي حالم!
ومن النماذج القديمة لها: جمهورية أفلاطون ([244] ) لـأفلاطون (348ق.م)، ومن أبرز المحاولات التي قام بها مسيحيون لصياغة هذه النظرية يوتوبيا لـتوماس مور (1535)؛ ومدينة الشمس لـكامبانيلا (1639).
والذي يهمنا من هذه النظرية هو أنها لا تجعل الدين هو المنهج الذي تقوم عليه الحياة، والأساس الذي تنبثق منه كل التصورات والقيم، بل إن الانسجام العقلي والمصلحة الدنيوية المجردة هما الدعامة التي بنت النظرية عليها مجتمعاتها اللادينية، وإن كان بعض متخيليها كـتوماس مور تخيل وجود دين في مدينته إلا أنه دين شخصي بارد لا أثر له في الحياة[245] .
هذه الفكرة الخطرة ترسبت - لا شعورياً - في أذهان المثقفين الذين كانوا شغوفين بقراءة مثل هذه المؤلفات، وولدت فيهم إحساساً بأن الحياة تكون سعيدة فاضلة لو عزل الدين عن الواقع وبقي طقوساً جامدة لا علاقة لها بالحياة؛ بل أوحت إليهم بإمكان قيام حياة بهيجة متكاملة بلا دين
ولا شك أن مثل هذه الأفكار يسهل استيعابها وتقبلها في بيئة تخضع لطغيان الكنيسة الأعمى ومضايقاتها المرهقة | |
|
Bound2 *ابــــــــالبناديقــــــــــــــو*
عدد الرسائل : 1286 العمر : 32 تاريخ التسجيل : 25/03/2007
| موضوع: رد: مبادئ الملاحده الفكريه والرد عليها OoO متجدد OoO الإثنين يونيو 04, 2007 8:46 pm | |
| ثانياً:
نظرية العقد الاجتماعي كانت الفلسفة المدرسية - أشهر المذاهب الفلسفية في القرون الوسطى - تقدس فلسفة أرسطو (322ق.م) وأفلاطون والتراث الإغريقي جملة - رغم الوثنية المشبع بها هذا التراث - وكان مذهب أرسطو "الإنسان حيوان اجتماعي " [246] ، أو كما تعبر المصادر العربية مدني بطبعه، -أي: أن الحالة الاجتماعية للإنسان مقترنة بوجوده منذ القدم- وكانت هذه النظرية من المسلمات التي لا تحتاج إلى دليل.
ولكن أحد الباحثين المجتمعين الأوائل وهو: هوبز خالف -وربما عن غير قصد- هذه الفكرة حيث اعتقد أن الإنسان لم يكن في الأصل إلا ذئباً على أخيه الإنسان - على حد تعبيره - وأن الحالة الفطرية أو الطبيعية كانت حرباً لا هوادة فيها بين أفراد النوع الإنساني؛ ولذلك احتاج الناس إلى عقد يتنازل بواسطته بعضهم لبعض عن شيء من الحقوق في سبيل أمن وسلامة الجميع.
ولما كانت طبيعة الإنسان -كما يراها هوبز - هي الشر دائماً استلزم الأمر وجود قوة نفوذها أعلى من العقد تكون مهمتها تنفيذ العقد إجبارياً على الأفراد، هذه القوة هي الدولة أو الحكومة [247] .
وبغض النظر عن النتيجة الخاطئة التي وصل إليها هوبز وهي تبرير الطغيان بحجة تنفيذ العقد بالقوة، فإن فكرة العقد ذاتها حظيت بعناية الباحثين من بعده [248] .
وتلا هوبز جون لوك (1704) الذي اتفق معه في وجود عقد اجتماعي بين الدولة والأفراد، إلا أنه خالفه في كون سلطة الحكومة المشرفة على تنفيذ العقد مطلقة، فهو يرى أن السلطة مقيدة بقبول الأفراد لها؛ ولذلك يمكن سحب السلطة منها بسحب الثقة فيها [249] .
وأخيراً اكتملت الفكرة على يد جان جاك روسو (1778) مع فارق أساسي بينه وبين هوبز ، ذلك أن روسو يرى أن الحالة الطبيعية للإنسان هي الفترة الذهبية من تاريخه، ولكن الإنسان بفعل الأطماع وبتأثير (الأديان!) تجرد من النقاء الطبيعي، وانتقل إلى حالة من الفوضوية اقتضت وجود عقد اجتماعي لتنظيم حياة الناس ومحاولة العودة بهم إلى الحالة الطبيعية [250] .
والملاحظ على النظرية بشكل عام هو إغفالها لدور الدين سواء فيما هو كائن أو فيما ينبغي أن يكون إلى درجة أن روسو لا يكتفي بإهمال الأثر الديني في توجيه المجتمع، بل يعد الدين الإلهي عاملاً من العوامل التي تعوق الرجوع إلى الحالة الطبيعية السوية.
وحين يطالب روسو بفصل السياسة عن الدين، فإنه يتهم الأديان بأنها هي التي سببت هذا الفصل حيث نجده يقول: 'إن الشعوب القديمة كانت تعبد الملوك، وكان لكل دولة ملكها وإلهها في الوقت نفسه، فكانت السياسة والدين شيئاً واحداً، ولكن الأديان ومن بينها المسيحية فصلت بين العالم المادي والعالم الروحي فهي تتعلق بالعالم الروحي ولا تشرع للمجتمع السياسي، فلماذا لا يكون لهذا المجتمع دين سياسي خاص؟'.
ونظراً لتهجم روسو على الدين ومطالبته بعزله عن واقع الحياة وصفه بعض الباحثين الغربيين بأن مؤلفاته كانت إعلاناً صارخاً لحرب ضد المجتمع وضد الله [251] .
ومن العوامل المشجعة التي دفعت هذه النظرية إلى الأمام قيام الثورة الفرنسية على وحي من مبادئها وآراء فلاسفتها -لا سيما روسو - إذ يعد كتابه الذي يحمل اسم النظرية إنجيل الثورة الفرنسية.
وأوحت نظرية العقد الاجتماعي إلى الناس بفكرة جديدة هي الوطنية أو القومية إذ أن العقد يكون بين الإنسان والمجتمع الذي يعيش فيه، وتتفق مصالحه مع مصالح الفرد ورغباته، لا مع مجتمع آخر بعيد مهما كانت قوة الصلة الدينية به، فهي تهدف إلى نزع ولاء الفرد من الكنيسة وإعطائه للدولة وإلى قطع الروابط الدينية ليحل محلها روابط وطنية، كما أنها جعلت القيمة العليا للمصلحة المادية الدنيوية التي بسببها تم إبرام العقد، وليست للملكوت الذي تبشر به المسيحية أو المثل أو الفضائل التي كان المجتمع يعدها أغلى ما يملك.
لذلك فليس بعيداً ما قاله ويلز من أن روسو كان يلتمس المعاذير لنقض العقد الاجتماعي وهدمه أكثر مما يؤكد ضرورته [252] | |
|